الأحد، 9 مايو 2021

17 انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)  

 
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) }
قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح: هذه الآية: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } /(4/155)


أول ما نزل من سورة براءة.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا، فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } الآية.
أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحَتَّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر، فقال: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }
وقال علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: كهولا وشَبَابًا (1) ما أسمع الله عَذَر أحدًا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل.
وفي رواية: قرأ (2) أبو طلحة سورة براءة، فأتى على هذه الآية: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فقال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا (3) جهزوني يا بَنِيَّ. فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها (4)
وهكذا روي عن ابن عباس، وعِكْرِمة وأبي صالح، والحسن البصري، وشَمْر بن عطية، ومقاتل بن حَيَّان، والشعبي وزيد بن أسلم: أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا: كهولا وشبابا (5) وكذا قال عِكْرِمة والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغير واحد.
وقال مجاهد: شبابا (6) وشيوخا، وأغنياء ومساكين. وكذا قال أبو صالح، وغيره.


وقال الحكم بن عُتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول: انفروا نشاطا وغير نشاط. وكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مُجاهد: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا: فإن فينا الثقيل، وذا الحاجة، والضيعة (7) والشغل، والمتيسر به أمر، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم.
__________
(1) في أ: "وشبانا".
(2) في ت، أ: "وهو في رواية أنه قال:".
(3) في أ: "وشبانا".
(4) في ت، ك: "فيها".
(5) في ت، ك، أ: "وشبانا".
(6) في أ: "شبانا".
(7) في ت: "والصنعة". /(4/156)


وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا: في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دُروب الروم نفرَ الناس إليها خفافا وركبانا، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة. وهذا تفصيل في المسألة.
وقد روي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
وقال السدي قوله: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول: غنيًا وفقيرًا، وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ، زعموا أنه المقداد، وكان عظيما سمينًا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فأبى فنزلت يومئذ (1) { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 91].
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدًا قال: وكان أبو أيوب يقول: قال الله: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا (2)
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السَّكُوني، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا حَرِيز، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فضل عنها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة "البعوث (3) { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } (4)
وبه قال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليا على حمص قِبَل الأفسُوس، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هما، وقد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. فأقبلت إليه (5) فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه (6) فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه (7) وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله، عز وجل (8)
__________
(1) في أ: "فنزلت هذه الآية".
(2) تفسير الطبري (14/267).
(3) في هـ، ت، د: "البعوث" والمثبت من الطبري.
(4) تفسير الطبري (14/268).
(5) في ت، أ: "عليه".
(6) في ت: "حاجبه".
(7) في أ: "فيقتنيه".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/264). /(4/157)


لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال: { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وتَكفَّل الله للمجاهد (1) في سبيله إن (2) توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" (3)
ولهذا قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216].
ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن حميد، عن أنس؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم". قال: أجدني كارها. قال: "أسلم وإن كنت كارها" (4)
{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) }
يقول تعالى موبّخًا للذين تخلفوا عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما استأذنوه في ذلك، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال: { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } قال ابن عباس: غنيمة قريبة، { وَسَفَرًا قَاصِدًا } أي: قريبا أيضا، { لاتَّبَعُوكَ } أي: لكانوا جاءوا معك لذلك، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي: المسافة إلى الشام، { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } أي: لكم إذا رجعتم إليهم { لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي: لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم، قال الله تعالى: { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) }
__________
(1) في ت: "للمجاهدين".
(2) في ت: "بأن".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (7463) ومسلم في صحيحه برقم (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) المسند (3/109).
(5) في أ: "رسول الله".

(4/158)


وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حصين بن [يحيي بن] (1) سليمان الرازي (2) حدثنا سفيان بن عيينة، عن مِسْعَر (3) عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } وكذا قال مُوَرِّق العِجْلي وغيره.
وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخَّص له في أن يأذن لهم إن شاء: { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } [النور: 62] وكذا رُوي عن عطاء الخراساني.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذِنُوا رسول الله فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
ولهذا قال تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: في إبداء الأعذار، { وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } (4) يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو [وإن لم تأذن لهم فيه. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو] (5) أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: { لا يَسْتَأْذِنُكَ } أي: في القعود عن الغزو { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ؛ لأن أولئك يرون الجهاد قربة، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي: في القعود ممن لا عذر له { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: شكت في صحة ما جئتهم به، { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي: يتحيرون، يُقَدِّمُون رجلا ويؤخرون أخرى، وليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هَلْكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) }
يقول تعالى: { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ } أي: معك إلى الغزو { لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } أي: لكانوا تأهبوا له، { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } أي: أبغض أن يخرجوا معك (6) قَدرًا، { فَثَبَّطَهُمْ } أي: أخرهم، { وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } أي: قدرًا.
__________
(1) زيادة من الجرح والتعديل 4/2/364. مستفادا من هامش ط. الشعب.
(2) في أ: "الداري".
(3) في أ: "مشرف".
(4) في ت: "ويعلم".
(5) زيادة من ت، ك، أ.
(6) في ت، ك: "معكم".

(4/159)


ثم بين [الله تعالى] (1) وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين. فقال: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } أي: لأنهم جبناء مخذولون، { وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد، وزيد بن أسلم، وابن جرير: { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وقال محمد بن إسحاق: كان فيما بلغني -من استأذن -من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول والجَدُّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معه (2) فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } (3)
ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فأخبر بأنه [يعلم] (4) ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 28] وقال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال: 23] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [النساء: 66-68] والآيات في هذا كثيرة.
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ت: "معهم".
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/281).
(4) زيادة من ت، ك.

(4/160)


( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )




============






لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)




التوبة - تفسير ابن كثير












لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

{ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) }
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين: { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ } أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة،

(4/160)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد تَوَجَّه. فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم (1) ذلك وساءهم؛ ولهذا قال تعالى: { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) }
يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: { ائْذَنْ لِي } في القعود { وَلا تَفْتِنِّي } بالخروج معك، بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا. كما قال محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رُومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: "هل لك يا جَدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟" فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد أذنت لك". ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } الآية، أي: إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم (2)
وهكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: أنها نزلت في الجد بن قيس. وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من سيدكم يا بني سلمة؟" قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّله (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوأ من البخل، ولكن سَيِّدكم الفتى الأبيض الجَعْد بِشْر بن البراء بن مَعْرُور".
وقوله تعالى: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي: لا مَحيد لهم عنها، ولا مَحيص، ولا مَهرَب.
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
يعلم تبارك وتعالى نبيه بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من { حَسَنَةٌ } أي: فتح ونصر وظفر
__________
(1) في ت: "أغاظهم".
(2) رواه عنهم الطبري في تفسيره (14/287).
(3) في ت: "نبجله".

(4/161)


قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)

على الأعداء، مما يسره ويسر أصحابه، ساءهم ذلك، { وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ } أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا، { وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } فأرشد الله تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة، فقال: { قُلْ } أي: لهم { لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي: نحن تحت مشيئة الله، وقدره، { هُوَ مَوْلانَا } أي: سيدنا وملجؤنا { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي: ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) }
يقول تعالى: { قُلْ } لهم يا محمد: { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } ؟ أي: تنتظرون بنا { إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } شهادَة أو ظَفَرٌ بكم. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم. { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } أي: ننتظر بكم هذا أو هذا، إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا، بسبي أو بقتل، { فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }
وقوله: { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي: مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين { لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ }
ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك، وهو أنهم لا يتقبل منهم، { إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } أي: [قد كفروا] (1) والأعمال إنما تصح بالإيمان، { وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } أي: ليس لهم قصد صحيح، ولا همة في العمل، { وَلا يُنْفِقُونَ } نفقة { إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ }
وقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لا يمل حتى تملوا، وأنه طيب لا يقبل إلا طيبا؛ فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.
__________
(1) زيادة من أ.

(4/162)


( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )




=========

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)




التوبة - تفسير ابن كثير












فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) }
يقول تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه: { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } كما قال تعالى: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه: 131]

(4/162)


وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

وقال: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون:55، 56]
وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال الحسن البصري: بزكاتها، والنفقة منها في سبيل الله.
وقال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، [في الحياة الدنيا] (1) إنما يريد الله ليعذبهم بها [في الآخرة] (2)
واختار ابن جرير قول الحسن، وهو القول القَوي الحسن.
وقوله: { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي: ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم، عياذا بالله من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) }
يخبر الله تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينًا مؤكدة، { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } أي: في نفس الأمر، { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي: فهو الذي حملهم على الحلف. { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يحترزون به، { أَوْ مَغَارَاتٍ } وهي التي في الجبال، { أَوْ مُدَّخَلا } وهو السَّرَب في الأرض والنفَق. قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباس، ومجاهد، وقتادة: { لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغَمٍّ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) }
__________
(1) زيادة من ت، ك، أ.
(2) زيادة من ت، ك، أ.

(4/163)


يقول تعالى: { وَمِنْهمْ } أي ومن المنافقين { مَنْ يَلْمِزُكَ } أي: يعيب عليك { فِي } قَسْم { الصَّدَقَاتِ } إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون (1) المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن { أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أي: يغضبون لأنفسهم.
قال ابن جُرَيْج: أخبرني داود بن أبي عاصم قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت. قال: ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل؟ فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة في قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذُكر لنا أن رجلا من [أهل] (2) البادية حديثَ عهد بأعرابية، أتى رسول (3) الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل، ما عدلت. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك فمن ذا يعدل عليك بعدي". ثم قال نبي الله: "احذروا هذا وأشباهه، فإن في أمتي أشباه هذا، يقرءون القرآن لا يجاوز (4) تَرَاقيَهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم". وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن".
وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان من حديث الزهري، عن أبي سلمة (5) عن أبي سعيد في قصة ذي الخُوَيصرة -واسمه حُرْقوص -لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل، فإنك لم تعدل. فقال: "لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقفيا (6) إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء" وذكر بقية الحديث (7)
ثم قال تعالى مُنَبِّها لهم على ما هو خير من ذلك لهم، فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده، وهو قوله: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره، وترك زواجره، وتصديق أخباره، والاقتفاء بآثاره.
__________
(1) في ت: "المبهمون".
(2) زيادة من ت، ك، أ.
(3) في أ: "نبي".
(4) في ت: "لا يتجاوز"
(5) في ت، أ: "أبي سالم".
(6) في ت، أ: "مقتفيا".
(7) صحيح البخاري برقم (3610) وصحيح مسلم برقم (1064).

(4/164)


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) }
لما ذكر [الله] (1) تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكلْ قَسْمها إلى أحد غيره، فجزّأها لهؤلاء المذكورين، كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -وفيه ضعف -عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصُدَائي، رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" (2) وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية: هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها؟ على قولين:
أحدهما: أنه يجب ذلك، وهو قول الشافعي وجماعة.
والثاني: أنه لا يجب استيعابها، بل يجوز الدفع إلى واحد منها، ويعطى جميعَ الصدقة مع وجود الباقين. وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف، منهم: عمر، وحذيفة، وابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جُبَير، وميمون بن مِهْران.
قال ابن جرير: وهو قول عامة أهل العلم، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء.
ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا، والله أعلم.
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور، لشدة فاقتهم وحاجتهم، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وهو كما قال، قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، أنبأنا ابن عَوْن، عن محمد قال: قال عمر، رضي الله عنه: الفقير ليس بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلق الكسب. قال ابن علية: الأخلق: المحارَفُ عندنا (3)
والجمهور على خلافه. ورُوي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، وابن زيد. واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير: هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا، والمسكين: هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس.
وقال قتادة: الفقير: من به زمانة، والمسكين: الصحيح الجسم.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) سنن أبي داود برقم (1630)
(3) تفسير الطبري (14/308).

(4/165)


وقال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: هم فقراء المهاجرين. قال سفيان الثوري: يعني: ولا يُعْطَى الأعرابُ منها شيئا.
وكذا روي عن سعيد بن جُبَير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى.
وقال عِكْرِمة: لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، وإنما المساكين مساكين أهل الكتاب.
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية.
فأما "الفقراء"، فعن ابن عمرو (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ ولا لذي مِرَّة سَويّ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (2)
ولأحمد أيضا، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة، مثله (3)
وعن عبيد الله بن عَدِيِّ بن الخيار: أن رجلين أخبراه: أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب إليهما البصر، فرآهما جَلْدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي (4) بإسناد جيد قوي.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح [والتعديل: أبو بكر العبسي قال: قرأ عمر، رضي الله عنه: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } قال: هم أهل الكتاب] (5) روى عنه عمر بن نافع، سمعت أبي يقول ذلك (6)
قلت: وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد، فإن أبا بكر هذا، وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته، لكنه في حكم المجهول.
وأما المساكين: فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، فتردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان". قالوا: فما المسكين (7) يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجدُ غنًى يغنيه، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا".
رواه الشيخان: البخاري ومسلم (8)
__________
(1) في ت، ك، أ: "بن عمر".
(2) المسند (2/164) وسنن أبي داود برقم (1634) وسنن الترمذي برقم (652).
(3) المسند (2/377) وسنن النسائي (5/99) وسنن ابن ماجه برقم (1839).
(4) المسند (4/224) وسنن أبي داود برقم (1633) وسنن النسائي (5/99).
(5) زيادة من ت، ك، أ.
(6) الجرح والتعديل (9/341) وقد وقع سقط هناك.
(7) في أ: "المساكين".
(8) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).

(4/166)


وأما العاملون عليها: فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث: أنه انطلق هو والفضل بن عباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة، فقال: "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس" (1)
وأما المؤلفة قلوبهم: فأقسام: منهم من يعطى ليُسلم، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا. قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا زكريا بن عدي، أنا (2) ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي.
ورواه مسلم والترمذي، من حديث يونس، عن الزهري، به (3)
ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه، ويثبت قلبه، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من
صناديد الطلقاء وأشرافهم: مائة من الإبل، مائة من الإبل وقال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم" (4)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد: أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهَيبة في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعُيَينة بن بدر، وعلقمة بن عُلاثة، وزيد الخير، وقال: "أتألفهم" (5)
ومنهم من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه. ومنهم من يُعطَى ليجبي الصدقات ممن يليه، أو ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من (6) أطراف البلاد. ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع، والله أعلم.
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيه خلاف، فرُوي عن عمر، وعامر الشعبي وجماعة: أنهم لا يُعطَون بعده؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله، ومَكَّن لهم في البلاد، وأذل لهم رقاب العباد.
وقال آخرون: بل يُعطَون؛ لأنه عليه الصلاة والسلام (7) قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هَوازن،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1072).
(2) في ك: "أخبرنا".
(3) المسند (6/465) وصحيح مسلم برقم (2313) وسنن الترمذي برقم (666).
(4) صحيح البخاري برقم (1478) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (3344) وصحيح مسلم برقم (1064).
(6) في أ: "في".
(7) في أ: "صلى الله عليه وسلم".

(4/167)


وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم.
وأما الرقاب: فرُوي عن الحسن البصري، ومقاتل بن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جُبَير، والنَّخعي، والزهري، وابن زيد: أنهم المكاتَبون، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه، وهو قول الشافعي والليث.
وقال ابن عباس، والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومالك، وإسحاق، أي: إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا. وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من مُعتقها حتى الفَرْج بالفرج، وما ذاك إلا لأن (1) الجزاء من جنس العمل، { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الصافات:39]
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة حق على الله عونُهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود (2)
وفي المسند عن البراء بن عازب قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. فقال: "أعتق النسَمة وفك الرقبة". فقال: يا رسول الله، أو ليسا واحدا؟ قال: "لا عتق النسمة أن تُفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" (3)
وأما الغارمون: فهم أقسام: فمنهم من تحمّل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب، فهؤلاء يدفع إليهم. والأصل في هذا الباب حديث قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". قال: ثم قال: "يا قَبِيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش: أو قال: سدادًا من عيش -ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش -فما سواهن من المسألة سحت، يأكلها صاحبها سحتا". رواه مسلم (5)
__________
(1) في ت: "أن".
(2) المسند (2/251) وسنن الترمذي برقم (1655) وسنن النسائي (6/61) وسنن ابن ماجه برقم (2518) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(3) المسند (4/299).
(4) في ت: "النبي".
(5) صحيح مسلم برقم 1(1044).

(4/168)


وعن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (1) تصدقوا عليه". فتصدق الناس (2) فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك". رواه مسلم (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، أنبأنا صدقة بن موسى، عن أبي عمران الجَوْني، عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين (4) عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه، فيقول: يا بن آدم، فيم أخذت هذا الدين؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله: صدق عبدي، أنا أحق من قضى عنك اليوم. فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه، فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته" (5)
وأما في سبيل الله: فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد، والحسن، وإسحاق: والحج من سبيل الله، للحديث.
وكذلك ابن السبيل: وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال. وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل على ذلك الآية، وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث مَعْمَر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغنيّ إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني" (6)
وقد رواه السفيانان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلا. ولأبي داود عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، وابن السبيل، أو جار فقير فيُهدي لك أو يدعوك" (7)
وقوله: { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي حكما مقدرا بتقدير الله وفَرْضِه وقَسْمه (8) { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، { حَكِيمٌ } فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به،
__________
(1) في أ: "فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه".
(2) في أ: "الناس عليه".
(3) صحيح مسلم برقم (1556).
(4) في أ: "المصريين".
(5) المسند (1/197 ، 198).
(6) سنن أبي داود برقم (1635) وسنن ابن ماجه برقم (1841).
(7) سنن أبي داود برقم (1637) وعطية العوفي ضعيف.
(8) في ت، أ: "وقسمته".

(4/169)


وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) }
يقول تعالى: ومن المنافقين قوم يُؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه ويقولون: { هُوَ أُذُنٌ } أي: من قال له شيئا صدقه، ومن حدثه فينا صدقه، فإذا جئنا وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. قال الله تعالى: { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } أي: هو أذن خير، يعرف الصادق من الكاذب، { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: ويصدق المؤمنين، { وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } أي: وهو حجة على الكافرين؛ ولهذا قال: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

(4/170)


( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )




============

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)




التوبة - تفسير ابن كثير












يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) }
قال قتادة في قوله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا، لهم شر من الحمير. قال: فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار. قال: فسعى بها الرجل إلى النبي (1) صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: "ما حملك على الذي قلت؟" فجعل يلتعن، ويحلف بالله ما قال ذلك. وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله، عز وجل: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا } (2) أي: ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد (3) الله، أي: شاقه وحاربه وخالفه، وكان في حَدٍّ والله ورسوله في حدٍّ { فأن له نار جهنم خالدا فيها } أي: مهانًا معذبا، { ذلك الخزي العظيم } أي: وهذا هو الذل العظيم، والشقاء الكبير.
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) }
قال مجاهد: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [المجادلة: 8]
__________
(1) في أ: "نبي الله".
(2) في ت: "تعلموا".
(3) في أ: "يحاد".

(4/170)


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

وقال في هذه الآية: { قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } أي: إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له (1) أمركم كما قال: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } إلى قوله: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 29، 30] (2) ؛ ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة "الفاضحة"، فاضحة المنافقين.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }
قال أبو معشر المديني (3) عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } إلى قوله: { مجرمين } وإن رجليه لتنسفان (4) الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس (5) ما رأيت مثل قُرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبتَ، ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه (6) الحجارة (7) وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
وقد رواه الليث، عن هشام بن سعد، بنحو من هذا (8)
وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وَديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مُخَشّن (9) بن حُميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مُقَرّنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مُخَشّن (10)
__________
(1) في أ: "لكم".
(2) في أ: "إسرارهم" وهو خطأ.
(3) في أ: "المعدني".
(4) في هـ: "ليسفعان"، وفي أ: "ليشفعان" والمثبت من الطبري.
(5) في ت، أ: "مجلس يوما".
(6) في ت، أ: "يركبه".
(7) في ت: "بالحجارة".
(8) رواه الطبري في تفسير (14/333 ، 334).
(9) في أ: "مخشي".
(10) في أ: "مخشي".

(4/171)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب شرح السنة تأليف إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري،

شرح السنة للبربهاري شرح السنة للإمام البربهاري (329 هـ)     كتاب شرح السنة تأليف إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي بن خل...