الأحد، 9 مايو 2021

4. وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

 
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف في المشركين من العرب (1) قال الله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ ] } (2)


هكذا رواه مختصرا، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة:29] 

 

والسيف الثالث: قتال المنافقين في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] } [التوبة: 73 ، والتحريم:9] (3) 

 

والرابع: قتال الباغين في قوله: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات:9]
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [محمد:4] وقال قتادة بالعكس.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) }
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، { اسْتَجَارَكَ } أي: استأمنك، فأجبه إلى طلبته { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } أي: [القرآن] (4) تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من [أمر] (5) الدين تقيم عليه به حجة الله، { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي: وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في تفسير هذه الآية، قال: إنسان يأتيك يسمع ما تقول وما أنزل عليك، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاء.
ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدًا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدًا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم.
__________
(1) في ت، د: "سيف في المشركين وسيف في العرب".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت، د، ك، أ.
(5) زيادة من ت، د، ك، أ.

(4/113)


ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أتشهد (1) أن مسيلمة رسول الله؟" قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك" (2) وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له: ابن النواحة، ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الآن لست في رسالة، وأمر به فضربت عنقه، لا رحمه الله ولعنه.
والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه. لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما (3) زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله.
__________
(1) في ك: "أما تشهد".
(2) رواه أحمد في المسند (3/487) وأبو داود في السنن برقم (2761) من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم عن أبيه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسل مسيلمة، فذكر نحوه.
(3) في ت: "ما". (4/114)

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
 

التوبة - تفسير ابن كثير
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
يبين تعالى (1) حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون (2) به وبرسوله، { إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } الآية [الفتح: 25] ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } أي: مهما (3) تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين { فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست، إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء: منهم صفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
__________
(1) في ت: "يبين تعالى أن".
(2) في ت، ك، : "كافرين" وهو خطأ.
(3) في د: "فمهما". /(4/114)


كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)


{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) }
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله (1) ولو أنهم إذ ظهروا (2) على المسلمين وأدِيلوا عليهم، لم يبقوا ولم يذروا، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة.
قال علي بن أبي طلحة، وعِكْرِمة، والعوفي عن ابن عباس: "الإل": القرابة، "والذمة": العهد. وكذا قال الضحاك والسدي، كما قال تميم بن مُقْبِل:
أفسد الناس خُلوفٌ خلفوا ... قطعوا الإلَّ وأعراقَ الرحم (3)
وقال حسان بن ثابت، رضي الله عنه:
وجدناهُمُ كاذبًا إِلّهُمْ ... وذو الإلِّ والعهد لا يكذب (4)
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } قال: الله. وفي رواية: لا يرقبون الله ولا غيره.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله تعالى: { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } مثل قوله: "جبرائيل" ، "ميكائيل" ، "إسرافيل"، [كأنه يقول: يضيف "جبر"، و"ميكا"، و"إسراف"، إلى "إيل"، يقول عبد الله: { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } ] (5) كأنه يقول: لا يرقبون الله.
والقول الأول أشهر وأظهر، وعليه الأكثر.
وعن مجاهد أيضا: "الإل": العهد. وقال قتادة: "الإل": الحلف.
{ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) }
__________
(1) في د: "برسوله صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت: "ظاهروا".
(3) البيت في تفسير الطبري (14/148).
(4) قال المعلق على طبعة الشعب: هكذا نسبه ابن كثير إلى حسان بن ثابت، ولم نجده في ديوانه. والبيت في تفسير الطبري غير منسوب 15/148 وأما بيت حسان الذي استشهد به الطبري فهو لعمرك إن إلك من قريش ... كإل الشقب من رأل النعام
وهذا البيت في ديوان حسان ص 336، واللسان، مادة "ألل".
(5) زيادة من الطبري (14/146). /(4/115)

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم: { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } يعني: أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة، { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ } أي: منعوا المؤمنين من اتباع الحق، { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } تقدم تفسيره، وكذا الآية التي بعدها: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } إلى آخرها، تقدمت.


وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا أبو جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته، لا يشرك (1) به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث واختلاف الأهواء". وتصديق ذلك في كتاب الله: { فَإِنْ تَابُوا } يقول: فإن خلعوا الأوثان وعبادتها { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وقال في آية أخرى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ }
ثم قال البزار: آخر الحديث عندي والله أعلم: "فارقها وهو عنه راض"، وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس (2)
{ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) }


يقول تعالى: وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم، أي: عهودهم ومواثيقهم، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } أي: عابوه وانتقصوه. ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص؛ ولهذا قال: { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } أي: يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال.
وقد قال قتادة وغيره: أئمة الكفر كأبي جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، وعدد رجالا.
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: مر سعد برجل من الخوارج، فقال الخارجي: هذا من أئمة الكفر. فقال سعد: كذبت، بل أنا قاتلت أئمة الكفر. رواه ابن مردويه.
وقال الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

__________
(1) في ت، ك: "لا شريك".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (2/331) من طريق أحمد بن مهران عن عبيد الله بن موسى بنحوه، ولم يفرق بين المرفوع والموقوف، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" وتعقبه الذهبي قلت: "صدر الحديث مرفوع وسائره مدرج فيما أرى". (4/116)


أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

وروى عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مثله.
والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير: أنه كان في عهد أبي بكر، رضي الله عنه، إلى الناس حين وجههم إلى الشام، قال: إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رواه ابن أبي حاتم.
{ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) } 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب شرح السنة تأليف إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري،

شرح السنة للبربهاري شرح السنة للإمام البربهاري (329 هـ)     كتاب شرح السنة تأليف إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي بن خل...