====
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ
كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ
تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا
وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ
وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ
وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا
ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (80)
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) }
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين
ليسوا أهلا للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم.
وقد قيل: إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار
لهم؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد
بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها.
وقيل: بل لها مفهوم، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: "أسمع ربي قد رخص لي فيهم،
فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم! فقال الله من شدة غضبه
عليهم: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [المنافقون:6]
وقال الشعبي: لما ثَقُل عبد الله بن أبي، انطلق ابنه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي قد احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك". قال الحباب بن عبد الله. قال: "بل
أنت عبد الله بن عبد الله، إن الحباب اسم شيطان". قال: فانطلق معه حتى شهده
وألبسه قميصه وهو عرق، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه [وهو منافق] (1) ؟ قال:
"إن الله قال: { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ولأستغفرن له
سبعين وسبعين وسبعين".
وكذا روي عن عُرْوَة بن الزبير ومجاهد بن جُبَير، وقتادة
بن دِعَامة. رواها ابن جرير بأسانيده.
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(4/188)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا
كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا
كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }
يقول تعالى ذَامّا للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بمقعدهم (1) بعد خروجه، {
وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا } معه
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَالُوا } أي: بعضهم لبعض: { لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } ؛ وذلك أن الخروج في
(2) غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا (3) { لا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } قال الله تعالى لرسوله: { قل } لهم: { نَارُ جَهَنَّمَ } التي تصيرون
إليها بسبب مخالفتكم { أَشَدُّ حَرًّا } مما فررتم منه من الحر، بل أشد حرا من
النار، كما قال الإمام مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي يوقدون بها جزءٌ من سبعين
جزءًا [من نار جهنم" فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية. قال (4) إنها
فضلت عليها بتسعة وستين جزءا] (5) أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، به (6)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن
الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (7) صلى الله عليه وسلم قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا
من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل [الله] (8) فيها منفعة
لأحد" (9) وهذا أيضا إسناده صحيح (10)
وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه، عن عباس
الدوري، عن يحيى بن أبي بكير (11) عن شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد على النار ألف
سنة حتى احمرَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى
اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم". ثم قال الترمذي: لا أعلم أحدا رفعه غير
يحيى (12)
كذا قال. وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم
بن محمد، عن محمد بن الحسين بن
__________
(1) في ت، أ: "بقعودهم".
(2) في ت، أ: "إلى".
(3) في ك: "قال".
(4) في ت، ك، أ: "فقال".
(5) زيادة من ت، ك، أ، والموطأ.
(6) الموطأ (2/994) وصحيح البخاري برقم (3265) ورواه
مسلم في صحيحه برقم (2843) من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد به.
(7) في ك: "أن رسول الله".
(8) زيادة من ت، ك، أ،. والمسند.
(9) المسند (2/244).
(10) في ت، أ: "إسناد جيد صحيح".
(11) في أ: "بكر".
(12) سنن الترمذي برقم (2591) وسنن ابن ماجه برقم (4320)
وقال الترمذي: "حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح، ولا أعلم أحدا رفعه غير
يحيى بن أبي بكير عن شريك".
(4/189)
مكرم، عن عبيد الله بن سعد (1) عن عمه، عن شريك -وهو ابن
عبد الله النخعي -به. وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن
أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] قال: "أُوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام
حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل، لا يضيء لهبها" (2)
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نَجِيح
-وقد اختلف فيه -عن الحسن، عن أنس مرفوعا: "لو أن شرارة بالمشرق -أي من نار
جهنم -لوجد حرها مَنْ بالمغرب" (3)
وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن أبي
عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان (4) عن محمد بن شبيب، عن جعفر بن أبي وحشية، عن
سعيد بن جُبَير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو
كان هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه،
لاحترق المسجد ومن فيه" (5) غريب.
وقال الأعمش عن أبي إسحاق، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان
وشِرَاكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أحدا من أهل النار
أشدُّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا". أخرجاه في الصحيحين، من حديث الأعمش (6)
وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى
بن أبي بُكَيْر (7) حدثنا زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي
عياش (8) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى
أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة
نعليه" (9)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن عجلان، سمعت أبي،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل النار عذابا
رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه" (10)
وهذا إسناد جيد قوي، رجاله على شرط مسلم، والله أعلم.
__________
(1) في ت، ك، أ: "سعيد".
(2) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (799) من طريق
سهل بن حماد عن مبارك بن فضالة به نحوه.
(3) المعجم الأوسط برقم (4841) "مجمع البحرين"
وأشار الحافظ هنا إلى الاختلاف في حال تمام بن نجيح، قال المنذري في الترغيب
والترهيب (4/362): "في إسناده احتمال للتحسين".
(4) في جميع النسخ: "حسام" والتصويب من أبي
يعلى.
(5) مسند أبي يعلى (12/22) ورواه أبو نعيم في الحلية
(4/307) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل به، وقال المنذري في الترغيب والترهيب
(4/363): "إسناده حسن، وفي متنه نكارة".
(6) صحيح البخاري برقم (6562) وصحيح مسلم برقم (+213).
(7) في أ: "بكر".
(8) في أ: "عباس".
(9) صحيح مسلم برقم (211).
(10) المسند (2/438). /(4/190)
والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة، وقال الله
تعالى في كتابه العزيز: { كَلا إِنَّهَا لَظَى نزاعَةً لِلشَّوَى } [المعارج: 15،
16] وقال تعالى: { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا
فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ } [الحج: 19-22] وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ
} [النساء: 56]
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة [الأخرى] (1) { قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي: لو أنهم يفقهون ويفهمون
لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر، ليتقوا به حَرَّ جهنم، الذي هو أضعاف
أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الآخر (2)
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الآخر:
عُمرُكَ بالحميَة أفْنَيْتَه ... مَخَافَةَ البارد
والحَار ...
وَكانَ أولَى بك أنْ تَتقي ... مِنَ المعَاصِي حَذرَ
النَّار ...
ثم قال [الله] (3) تعالى جل جلاله، متوعدا لهؤلاء
المنافقين على صنيعهم هذا: { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ }
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها
ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله، عز وجل، استأنفوا بكاء لا ينقطع
أبدا. وكذا قال أبو رَزِين، والحسن، وقتادة، والربيع بن خُثَيم، وعون العقيلي (4)
وزيد بن أسلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الله بن عبد
الصمد بن أبي خداش، حدثنا محمد بن حميد (5) عن ابن المبارك، عن عمران بن زيد،
حدثنا يزيد الرَّقاشي، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "يا أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى
تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون.
فلو أن سُفُنًا أُزْجِيَتْ فيها لَجرَت".
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن يزيد الرقاشي، به (6)
__________
(1) زيادة من ت، ك، أ.
(2) وصدر البيت: والمستجير بعمرو عند كربته وذكره داود
الأنطاكي في مصارع العشاق (ص 219).
(3) زيادة من ت، ك، أ.
(4) في أ: "الفضلي".
(5) في جميع النسخ: "محمد بن جبير" والتصويب
من أبي يعلى.
(6) مسند أبي يعلى (7/161 - 162) وسنن ابن ماجه برقم
(4324) وقال البوصيري في الزوائد (3/323): "هذا إسناد فيه يزيد بن أبان
الرقاشي وهو ضعيف".
(4/191)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ
تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا
وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا:
حدثنا محمد بن العباس، حدثنا حماد الجزري، عن زيد بن رُفَيْع، رفعه قال: "إن
أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا، ثم بكوا القيح زمانا" قال:
"فتقول لهم الخَزَنَة: يا معشر الأشقياء، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها
أهلها في الدنيا، هل تجدون اليوم من تستغيثون به؟ قال: فيرفعون (1) أصواتهم: يا
أهل الجنة، يا معشر الآباء والأمهات والأولاد، خرجنا من القبور عطاشا، وكنا طول
الموقف عطاشا، ونحن اليوم عطاش، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، فيدعون
أربعين سنة لا يجيبهم، ثم يجيبهم: { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف: 77] فييأسون
من كل خير" (2)
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ
تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا
مَعَ الْخَالِفِينَ (83) }
يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام (3) {
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أي: ردك الله من غَزْوَتك هذه { إِلَى طَائِفَةٍ
مِنْهُمْ } قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا { فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ } أي: معك إلى غزوة أخرى، { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا
وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } أي: تعزيرا لهم وعقوبة. ثم علل ذلك بقوله:
{ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا كقوله تعالى: {
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ } [الأنعام:110] فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة
بعدها، كما قال في عُمرة الحديبية: { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ
أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ
اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [الفتح: 15]
وقوله تعالى: { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } قال
ابن عباس: أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة. وقال قتادة: { فَاقْعُدُوا مَعَ
الْخَالِفِينَ } أي: مع النساء.
قال ابن جرير: وهذا لا يستقيم؛ لأن جمع النساء لا يكون
بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال: فاقعدوا مع الخوالف، أو الخالفات، ورجح قول ابن
عباس رضي الله عنهما (4) (5)
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا
وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) }
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَبْرَأ من
المنافقين، وألا يصلي (6) على أحد منهم إذا مات، وألا
__________
(1) في ت: "فيرفعوا".
(2) صفة النار (ق 152 ظاهرية) وله شواهد من حديث أبي
موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري، رضي الله عنهما.
(3) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت، ك، أ: "عنه"
(5) تفسير الطبري (14/405).
(6) في ت، أ: "ونهاه أن يصلي".
(4/192)
يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له؛ لأنهم كفروا بالله
ورسوله، وماتوا عليه. وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في
عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين، كما قال البخاري:
حدثنا عُبَيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله،
عن نافع، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله -هو ابن أبي -جاء ابنه عبد الله بن
عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يُكَفِّن فيه
أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليصلي
عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تصلي
عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما
خيرني الله فقال: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وسأزيده على السبعين". قال: إنه
منافق! قال: فصلى عليه [رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] (1) فأنزل الله، عز وجل،
آية: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى
قَبْرِهِ }
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة
حماد بن أسامة، به (2)
ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض،
عن عبيد الله -وهو ابن عمر -العمري -به وقال: فصلى عليه، وصلينا معه، وأنزل الله:
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الآية.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد
الله، به (3)
وقد رُوي من حديث عمرَ بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا،
فقال الإمام أحمد:
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن
عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: سمعت عمرَ بن الخطاب، رضي الله عنه. يقول
لما تُوفي عبد الله بن [أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام
إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أعلى
عَدُوِّ الله عبد الله بن] (4) أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا -يُعَدِّد أيامه
-قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: "أخِّر
عني يا عمر، إني خُيِّرت فاخترتُ، قد قيل لي: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة:80] لو أعلم أنى إن زدت على السبعين غُفر له لزدت".
قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فُرغ منه -قال: فَعَجَبٌ لي
وجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: فوالله ما كان
إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ }
__________
(1) زيادة من ت، ك، أ، والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (4670) وصحيح مسلم برقم (2774).
(3) صحيح البخاري برقم (4672) والمسند (2/18).
(4) زيادة من ت، ك، أ، والمسند.
(4/193)
فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق،
ولا قام على قبره، حتى قبضه الله، عز وجل.
وهكذا رواه الترمذي في "التفسير" من حديث محمد
بن إسحاق، عن الزهري، به (1) وقال: حسن صحيح. ورواه البخاري عن يحيى بن بُكَير، عن الليث،
عن عُقَيل، عن الزهري، به، فذكر مثله وقال: "أخّر عني يا عمر". فلما
أكثرت عليه قال: "إنِّي خُيِّرت فاخترتُ، ولو أعلم أنى إن زدت على السبعين
يُغْفَر (2) له لزدت عليها". قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
انصرف، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: { وَلا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } الآية، فعجبتُ بعد من
جُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
(3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عُبَيد، حدثنا عبد الملك،
عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبيّ، أتى ابنه النبيّ صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك إن لم تأته لم نزل نُعَيَّر بهذا. فأتاه النبي
صلى الله عليه وسلم، فوجده قد أدخل في حفرته، فقال: أفلا قبل أن تدخلوه! فَأخرجَ
من حُفرته، وتَفَل عليه من قرنه إلى قدمه، وألبسه قميصه.
ورواه النسائي، عن أبي داود الحراني، عن يعلى بن عبيد،
عن عبد الملك -وهو ابن أبي سليمان به (4)
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا ابن
عُيَينة، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد
الله بن أبيّ بعد ما أدخل في قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من
ريقه، وألبسه قميصه، والله أعلم (5)
وقد رواه أيضا في غير موضع مع مسلم والنسائي، من غير
وجه، عن سفيان بن عيينة، به (6)
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار
في مسنده: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا مجالد، حدثنا عامر، حدثنا جابر(ح)
وحدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، حدثنا مجالد، عن الشعبي،
عن جابر قال: لما مات رأس المنافقين -قال يحيى بن سعيد: بالمدينة -فأوصى أن يصلي
عليه النبي (7) صلى الله عليه وسلم، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:
__________
(1) المسند (1/16) وسنن الترمذي برقم (3097).
(2) في ك: "لغفر".
(3) صحيح البخاري برقم (4671).
(4) المسند (3/371) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9665).
(5) صحيح البخاري برقم (5795).
(6) صحيح البخاري برقم (1270 ، 1350 ، 3008) وصحيح مسلم
برقم (2773) وسنن النسائي (4/37، 38).
(7) في ت: "رسول الله".
(4/194)
إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك -وهذا الكلام في حديث عبد
الرحمن بن مغراء -قال يحيى في حديثه: فصلى عليه، وألبسه قميصه، فأنزل الله تعالى:
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وزاد عبد
الرحمن: وخلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فأعطاه إياه، ومشى فصلى عليه، وقام
على قبره، فأتاه جبريل، عليه السلام، لما ولى قال: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (1) وهذا إسناد لا بأس به، وما قبله
شاهد له.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري: حدثنا [أحمد بن إسحاق،
حدثنا] (2) أبو أحمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيّ، فأخذ جبريل بثوبه وقال: {
وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من حديث يزيد الرقاشي
(3) وهو ضعيف.
وقال قتادة: أرسل عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"أهلكك حبّ يهود". قال:
يا رسول الله ، إنما أرسلتُ إليك لتستغفر لي، ولم أرسل
إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه إياه،
وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل الله، عز وجل: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
وقد ذكر بعض السلف أنه إنما ألبسه قميصه؛ لأن عبد الله
بن أُبيّ لما قدم العباس طُلب له قميص، فلم يُوجَد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن
أُبيّ؛ لأنه كان ضخمًا طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكافأة
له، فالله أعلم، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية
الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما قال الإمام
أحمد:
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن أبيه، حدثني عبد الله بن أبي
قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي لجنازة سأل عنها،
فإن أثني عليها خيرًا قام فصلى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها:
"شأنكم بها"، ولم يصل عليها (4)
وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جُهِل حاله، حتى
يصلي عليها حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم أعيان منافقين قد أخبره (5) بهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان يقال له: "صاحب السر" الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة.
__________
(1) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (1524) من طريق يحيى
بن سعيد عن مجالد به نحوه.
(2) زيادة من ت، أ، والطبري.
(3) تفسير الطبري (14/407) ومسند أبي يعلى (7/145).
(4) المسند (5/299).
(5) في أ: "أعلمه".
(4/195)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا
بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا
ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
وقال أبو عُبَيد في كتاب "الغريب"، في حديث
عُمَر أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل، فَمرَزَه حُذيفة، كأنه أراد أن يَصُده عن
الصلاة عليها، ثم حكي عن بعضهم أن "المرز" بلغة أهل اليمامة هو: القَرْص بأطراف الأصابع.
ولما نهى الله، عز وجل، عن الصلاة على المنافقين والقيام
على قبورهم للاستغفار لهم، كان هذا الصنيعُ من أكبر القُرُبات في حق المؤمنين،
فشرع ذلك. وفي فعله الأجر الجزيل، لما (1) ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد الجنازة حتى يصلّي عليها فله
قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" . قيل: وما القيراطان؟ قال:
"أصغرهما مثل أحد" (2)
وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فقد قال أبو داود:
حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا هشام، عن عبد الله بن بَحير، عن هانئ -وهو
أبو سعيد البربري، مولى عثمان بن عفان -عن عثمان، رضي الله عنه، قال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا
له التثبيت، فإنه الآن يسأل".
انفرد بإخراجه أبو داود، رحمه الله (3)
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
}
قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة (4) ولله الحمد.
{ وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ
وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا
ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
}
__________
(1) في ت، أ: "كما".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (1325) ومسلم في صحيحه
برقم (945).
(3) سنن أبي داود برقم (3221).
(4) انظر تفسير الآية: 55 من هذه السورة.
(4/196)
( معلومات
الكتاب - عودة إلى
القرآن - فهرس القرآن )
======
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ
الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى
وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا
أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا
مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
التوبة - تفسير ابن كثير
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) }
يقول تعالى منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين
عنه مع القدرة عليه، ووجود السعة والطَّوْل، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا:
{ ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء،
وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أَمْنٌ
كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال [الله] (1) تعالى، عنهم في الآية الأخرى:
__________
(1) زيادة من ت.
(4/196)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ
جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا
ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [الأحزاب:19] أي: علت
ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء، وكما قال الشاعر (1)
أفي السّلم أعيارًا جفَاءً وَغلْظَةً ... وَفي الحَرْب
أشباهُ النّسَاءِ العَوارِكِ (2)
وقال تعالى (3) في الآية الأخرى: { وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ]
[الآية] (4) [محمد:20-22] } (5)
وقوله: { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: بسبب (6)
نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله، { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي:
لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) }
لما ذكر تعالى ذم المنافقين، بيَّن ثناء المؤمنين، وما
لهم في آخرتهم، فقال: { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا }
إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم.
وقوله: { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } أي: في
الدار الآخرة، في جنات الفردوس والدرجات العلى.
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
}
ثم بَيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد، الذين
جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، ويبينون له ما هم فيه من الضعف،
وعدم القدرة على الخروج، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/656) منسوبا
إلى هند بنت عتبة، والأعيار: جميع عير وهو الحمار، والعوارك: هن الحوائض.
(2) في أ: "العوازل".
(3) في ت: "الله".
(4) زيادة من ت، ك، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ك: "بسببهم".
(4/197)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا
عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا
أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ
وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
قال الضحاك، عن ابن عباس: إنه كان يقرأ: "وَجَاءَ
المُعْذَرُون" بالتخفيف، ويقول: هم أهل العذر.
وكذا روى ابن عيينة، عن حُمَيد، عن مجاهد سواء.
قال ابن إسحاق: وبلغني أنهم نَفَر من بني غفار منهم:
خُفاف بن إيماء بن رَحَضة.
وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية؛ لأنه قال بعد هذا:
{ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: لم يأتوا فيعتذروا.
وقال ابن جُرَيْج عن مجاهد: { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ
مِنَ الأعْرَابِ } قال: نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا فلم يُعذرْهم الله. وكذا قال
الحسن، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، والقول الأول أظهر (1) والله أعلم، لما قدمنا من قوله
بعده: { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: وقعد آخرون من
الأعراب عن المجيء للاعتذار، ثم أوعدهم بالعذاب الأليم، فقال: { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا
عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا
أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ
وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) }
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد فيها عن
القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا
يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعَرَج ونحوهما، ولهذا بدأ به. ما هو
عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره (2)
لا يقدر على التجهز للحرب، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم،
ولم يرجفوا بالناس، ولم يُثَبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: { مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي
ثمامة، رضي الله عنه، قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن الناصح لله؟
قال: الذي يُؤثِر حق الله على حق الناس، وإذا حدث له أمران -أو: بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة -بدأ
بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.
__________
(1) في أ: "أولى".
(2) في ت، أ: "فقر".
(4/198)
وقال الأوزاعي: خرج الناس إلى الاستسقاء، فقام فيهم بلال
بن سعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟
قالوا: اللهم نعم. فقال: اللهم، إنا نسمعك تقول: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ
} اللهم، وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقِنا. ورفع يديه ورفعوا أيديهم
فَسُقوا.
وقال قتادة: نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله
الرازي، حدثنا ابن جابر، عن ابن فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن زيد بن ثابت
قال: كنت أكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أكتب "براءة" فإني
لواضعُ القلم على أذني إذ أمرْنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر
ما ينزل عليه، إذا جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فأنزل الله (1) { لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } الآية (2)
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من
أصحابه، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل المزني (3) فقالوا: يا رسول الله، احملنا. فقال
لهم: "والله لا (4) أجد ما أحملكم عليه". فتولوا ولهم بكاء، وعزَّ عليهم أن
يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرْصَهم على محبته
ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه، فقال: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ } إلى قوله تعالى: { فَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ } .
وقال مجاهد في قوله: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } نزلت في بني مقرن من مزينة.
وقال محمد بن كعب: كانوا سبعة نفر، من بني عمرو بن عوف:
سالم بن عُمَيْر (5) -ومن بني واقف: هَرَمي (6) بن عمرو -ومن بني مازن بن النجار:
عبد الرحمن بن كعب، ويكنى أبا ليلى -ومن بني المُعَلى: [سلمان بن صخر -ومن بني
حارثة: عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه] (7) ومن بني سَلِمة:
عمرو بن عَنَمة (8) وعبد الله بن عمرو المزني.
وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالا من
المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) في ت، أ: "فنزلت".
(2) ورواه الدارقطني في الأفراد كما في الأطراف لابن
طاهر (ق 134) وقال: "غريب من حديث أبي فروة - مسلم بن سالم عنه - أي ابن أبي
ليلى - عن زيد، تفرد به محمد بن جابر عنه، وهو غريب من حديث ابن أبي ليلى لا يعلم
حدث به عنه غير أبي فروة".
(3) في ت، ك، أ: "عبد الله بن معقل بن مقرن".
(4) في ت، ك: "ما".
(5) في ك: "عوف".
(6) في جميع النسخ: "حرمى" والتصويب من أسد
الغابة والإصابة.
(7) زيادة من ت، ك، والطبري، وفي هـ: "فضل الله".
(8) في ك: "عنزة".
(4/199)
وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني
عمرو بن عوف: سالم بن عُمَير (1) وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد
الرحمن بن كعب، أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح، أخو بني
سَلِمة، وعبد الله بن المُغَفَّل المزني؛ وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو
المزني، وهَرَميّ بن عبد الله، أخو بني واقف، وعِرْباض (2) بن سارية الفزاري، فاستحملوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه
فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (3)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن الأودي، حدثنا وَكيع، عن
الربيع، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خلفتم
بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا
وقد شَركوكم في الأجر"، ثم قرأ: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } الآية.
وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث (4) أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم [مسيرًا] (5) إلا
وهم معكم" . قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "نعم، حبسهم العذر" (6)
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي
سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خلفتم بالمدينة
رجالا (7) ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا إلا شَركوكم في الأجر، حبسهم المرض".
ورواه مسلم، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش، به (8)
ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم
أغنياء، وأنَّبَهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال، { وَطَبَعَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .
__________
(1) في أ: "عوف".
(2) في جميع النسخ: "عياض" والتصويب من ابن
هشام. مستفاد من هامش ط. الشعب.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/518).
(4) بعدها بياض في جميع النسخ قدر كلمة.
(5) زيادة من أ، ومسلم.
(6) صحيح البخاري برقم (2839) من حديث أنس بن مالك رضي
الله عنه وصحيح مسلم برقم (1911) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) في ت، أ: "أقواما".
(8) المسند (3/300) وصحيح مسلم برقم (1911) وسنن ابن
ماجه برقم (2765).
(4/200)
( معلومات
الكتاب - عودة إلى
القرآن - فهرس القرآن )
=========
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ
مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ
فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
التوبة - تفسير ابن كثير
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) }
(4/200)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ
أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة
أنهم يعتذرون إليهم، { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي: لن
نصدقكم، { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي: قد أعلمنا الله
أحوالكم، { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي: سيظهر أعمالكم للناس
في الدنيا، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (1) أي: فيخبركم بأعمالكم، خيرها
وشرها، ويجزيكم عليها.
ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تُؤَنِّبُوهم،
{ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } احتقارا لهم، { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي: خُبثاء نجس بواطنهم واعتقاداتهم،
{ وَمَأْوَاهُمْ } في آخرتهم { جهنم
} { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي: من الآثام
والخطايا.
وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم (2) لهم، { فَإِنَّ اللَّهَ
لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله،
فإن الفسق هو الخروج، ومنه سميت الفأرة "فُوَيسقة" لخروجها من جُحرها
للإفساد، ويقال: "فسقت الرطبة": إذا خرجت من أكمامها (3)
{ الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ
أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
}
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن
كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأجدر، أي: أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله
على رسوله، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو
يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك
ليعجبني، وإن يدك لتريبني فقال زيد: ما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال. فقال
الأعرابي: والله ما أدري، اليمين يقطعون أو الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان (4) صدق
الله: { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا
سفيان، عن أبي موسى، عن وهب
__________
(1) في أ: "ستردون" وهو خطأ.
(2) في أ: "بحلفانهم".
(3) في ت: "كمامها".
(4) في ك: "صوخان".
(4/201)
بن مُنَبِّه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى السلطان افتتن".
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن سفيان
الثوري، به (1) وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله
منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف:109]
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها
حتى رضي، قال: "لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي، أو ثَقَفي أو أنصاري،
أو دَوْسِيّ" (2) ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة، والطائف، والمدينة،
واليمن، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب: لما في طباع الأعراب من الجفاء.
حديث [الأعرابي] (3) في تقبيل الولد: قال مسلم: حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر، عن هشام، عن
أبيه، عن عائشة قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
أتقبِّلون صبيانكم؟ قالوا: نعم. قالوا: ولكنا والله ما نقبِّل. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "وَأمْلكُ أن كان الله نزع منكم الرحمة؟". وقال ابن
نمير: "من قلبك الرحمة" (4)
وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بمن
يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده من العلم والجهل
والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل، لعلمه وحكمته.
وأخبر تعالى أن منهم { مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ }
أي: في سبيل الله { مَغْرَمًا } أي: غرامة وخسارة، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ }
أي: ينتظر بكم (5) الحوادث والآفات، {
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } أي: هي منعكسة عليهم
والسوء دائر عليهم، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: سميع لدعاء عباده، عليم بمن
يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
وقوله: { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما
ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، {
أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } أي: ألا إن ذلك حاصل لهم، { سَيُدْخِلُهُمُ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
__________
(1) المسند (1/357) وسنن أبي داود برقم (2859) وسنن
الترمذي برقم (2256) وسنن النسائي (7/195).
(2) رواه النسائي في السنن (6/279) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
(3) زيادة من ت، ك، أ.
(4) صحيح مسلم برقم (2317).
(5) في ت، ك، أ: "لهم".
(4/202)
( معلومات
الكتاب - عودة إلى
القرآن - فهرس القرآن )
==========
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ
حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا
عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ
لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ
اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (106)
التوبة - تفسير ابن كثير
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ
لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) }
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار
والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.
قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من
أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية.
وقال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن
سيرين، والحسن، وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ:
{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فأخذ عمر بيده
فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبيُّ بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما
جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: وسمعتَها من رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا،
فقال أبيُّ: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الجمعة:3] وفي سورة الحشر: {
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } [الحشر:10] وفي الأنفال: {
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ } [الأنفال:75] إلى آخر الآية، رواه ابن جرير (1)
قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع
"الأنصار" عطفا على { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ }
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض
أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر
والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة، رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من
الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم، عياذًا بالله من ذلك. وهذا
يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ
يسبُّون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون
من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا
مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
(101) }
__________
(1) تفسير الطبري (14/438).
(4/203)
يخبر تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن في أحياء
العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضا منافقون { مَرَدُوا عَلَى
النِّفَاقِ } أي: مرنوا واستمروا عليه: ومنه يقال: شيطان مريد ومارد، ويقال:
تمرد فلان على الله، أي: عتا وتجبر.
وقوله: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله
تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[محمد:30]؛ لأن هذا من باب
التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على
التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه
صباحا ومساء، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن
رجل، عن جُبَير بن مطعم، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه
ليس لنا أجر بمكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جُحر ثعلب وأصغى إليَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: "إن في أصحابي منافقين" (1)
ومعناه: أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما
لا صحة له، ومن مثلهم صَدَر هذا الكلام الذي سمعه جُبَير بن مطعم. وتقدم في تفسير
قوله: { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [التوبة:74] أنه عليه السلام (2) أعلم
حُذَيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على
أسمائهم وأعيانهم كلهم، والله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "أبي عمر
البيروتي" من طريق هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا بن جابر، حدثني
شيخ بيروت يكنى أبا عمر، أظنه حدثني عن أبي الدرداء؛ أن رجلا يقال له
"حرملة" أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان هاهنا -وأشار بيده
إلى لسانه -والنفاق هاهنا -وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل له لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا،
وارزقه حُبّي، وحبَّ من يحبني، وصَيِّر أمره إلى خير". فقال: يا رسول الله،
إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: "من
أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا"
(3)
قال: وكذا رواه أبو أحمد الحاكم، عن أبي بكر الباغندي،
عن هشام بن عمار، به.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في هذه الآية
أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم
__________
(1) المسند (4/83).
(2) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(3) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (29/76).
(4/204)
الناس؟ فلان في الجنة وفلان في النار. فإذا سألت أحدهم
عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك (1) أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئا
ما تكلفه الأنبياء قبلك. قال نبي الله نوح: { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
} [الشعراء: 112] وقال نبي الله شعيب: { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [هود: 86] وقال الله لنبيه صلى الله
عليه وسلم: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } (2) .
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان، فإنك منافق، واخرج
يا فلان فإنك منافق". فأخرج من المسجد ناسا منهم، فضحهم. فجاء عمر وهم يخرجون
من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة (3) وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا
هم من عمر، ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا،
فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، قد (4) فضح الله المنافقين اليوم. قال ابن
عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر (5)
وكذا قال الثوري، عن السدي، عن أبي مالك نحو هذا.
وقال مجاهد في قوله: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ }
يعني: القتل والسباء (6) وقال -في رواية -بالجوع، وعذاب القبر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
وقال ابن جريج: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى
عذاب النار.
وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر (7)
وقال عبد الرحمن بن زيد: أما عذاب في الدنيا فالأموال
والأولاد، وقرأ قول الله (8) { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } [التوبة: 85] فهذه المصائب
لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر، وعذاب في الآخرة في النار { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى
عَذَابٍ عَظِيمٍ } قال: النار.
وقال محمد بن إسحاق: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } قال:
هو -فيما بلغني -ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة،
ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه، عذاب
الآخرة والخلد فيه.
وقال سعيد، عن قتادة في قوله: { سَنُعَذِّبُهُمْ
مَرَّتَيْنِ } عذاب الدنيا، وعذاب القبر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ
عَظِيمٍ }
__________
(1) في جميع النسخ: "بنصيبك" والتصويب من
الطبري. مستفاد من هامش ط. الشعب.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/253).
(3) في أ": "المسجد".
(4) في ت، ك، أ: "فقد".
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/441).
(6) في أ: "والسبي".
(7) في ت، أ: "النار".
(8) في ت: "قوله"، وفي أ: "قول الله
تعالى".
(4/205)
وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا
صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة
باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: "ستة منهم تكفيكهم الدُّبَيْلة: سراج من
نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا". وذكر لنا
أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان إذا مات رجل ممن يُرى أنه منهم، نظر إلى
حذيفة، فإن صلى عليه وإلا تركه. وَذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك بالله، أمنهم
أنا؟ قال: لا. ولا أومن منها أحدًا بعدك. (1)
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا
صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
لما بَيَّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغَزاة رغبة
عنها وتكذيبًا وشكا، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا
إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ } أي: أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين رَبِّهم، ولهم أعمال أخرَ
صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه.
وهذه الآية -وإن كانت نزلت في أناس معينين -إلا أنها
عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين.
وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لُبَابة لما قال لبني
قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.
وقال ابن عباس: { وَآخَرُونَ } نزلت في أبي لُبابة
وجماعة من أصحابه، تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل:
وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته (2)
ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما أنزل الله هذه الآية: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أطلقهم النبي
صلى الله عليه وسلم، وعفا عنهم.
وقال البخاري: حدثنا مُؤمَّل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم، حدثنا عوف، حدثنا أبو رجاء، حدثنا سَمُرَة بن جُنْدَب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لنا: "أتاني الليلة آتيان (3) فابتعثاني فانتهينا إلى
مدينة مبنية بلبن ذهب ولَبِن فضة، فتلقانا رجال شَطْر من خلقهم كأحسن ما أنت رَاء،
وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النهر. فوقعوا فيه، ثم
رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن،
وهذا منزلك. قالا أما القوم الذين كانوا شَطر منهم حَسَن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا
عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتجاوز الله عنهم".
هكذا رواه مختصرًا، في تفسير هذه الآية. (4)
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (14/443). والدبيلة: خراج
ودمل كبير يظهر في الجوف فيقتل صاحبه غالبا.
(2) في أ: "من غزوة".
(3) في أ: "اثنان".
(4) صحيح البخاري برقم (4674).
(4/206)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(104)
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (104) }
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخُذَ من
أموالهم صدقَة يطهرهم ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في
"أموالهم" إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئا؛
ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون،
وإنما كان هذا خاصًا برسول الله (1)
صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا احتجوا بقوله تعالى: { خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } وقد رَدَّ عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق
أبو بكر وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يُؤدونها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال الصديق: والله لو منعوني عِقالا -وفي
رواية: عَناقًا -يُؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه.
(2)
وقوله: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي: ادع لهم واستغفر لهم،
كما رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أُتِيَ بصدقة قوم صَلَّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم
صَل على آل أبي أوفى" (3) وفي الحديث الآخر: أن امرأة قالت: يا رسول الله، صلّ عليَّ
وعلى زوجي. فقال: "صلى الله عليك، وعلى زوجك". (4)
وقوله: { إنّ صَلاتك } : قرأ بعضهم: "صلواتك"
على الجمع، وآخرون قرءوا: { إِنَّ صَلاتَكَ } على الإفراد.
{ سَكَنٌ لَهُمْ } قال ابن عباس: رحمة لهم. وقال قتادة:
وقار.
وقوله: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي: لدعائك { عَلِيمٌ }
أي: بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا أبو العُمَيْس، عن
أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابن لحذيفة، عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا دعا لرجل أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده. (5)
ثم رواه عن أبي نُعَيم، عن مِسْعَر، عن أبي بكر بن عمرو
بن عتبة، عن ابن لحذيفة -قال مسعر:
__________
(1) في ك: "بالنبي".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7284 ، 7285) بلفظ:
"لو منعنوني عقالا" قال: "وقال ابن بكير وعبد الله عن الليث:
"عناقا وهو أصح".
(3) صحيح مسلم برقم (1078) والبخاري في صحيحه برقم (1497).
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (1533) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (10256) من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه.
(5) المسند (5/385).
(4/207)
وقد ذكره مرة عن حذيفة -: إن صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم لتُدرك الرجل وولده وولد ولده. (1)
وقوله:
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } هذا تهييج إلى التوبة
والصدقة اللتين كل منها (2) يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها.
وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة
من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها، حتى تصير التمرة مثل
أحد. كما جاء بذلك الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما قال الثوري
ووكيع، كلاهما عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها
لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتَصير مثل أحد"، وتصديق ذلك في
كتاب الله، عز وجل: { [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ] هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } (3) و[قوله] (4) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [البقرة: 276]. (5)
وقال الثوري والأعمش كلاهما، عن عبد الله بن السائب، عن
عبد الله بن أبي قتادة قال: قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: إن الصدقة تقع
في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية: { أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقَاتِ } (6)
وقد روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد الله بن
الشاعر السَّكْسَكي الدمشقي -وأصله حمصي، وكان أحد الفقهاء، روى عن معاوية وغيره،
وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي -قال: غزا الناس في زمان معاوية، رضي الله
عنه، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فَغَلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية.
فلما قفل الجيش نَدم وأتى الأميرَ، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس ولن
أقبلها منك، حتى تأتي الله بها يوم القيامةَ فجعل الرجل يستقرئ الصحابة، فيقولون
له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده
وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له
أمره، فقال أمطيعُني أنت؟ فقال: نعم، فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني
خُمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش،
فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل، فقال
معاوية، رضي الله عنه: لأن أكون أفتيتُه بها أحب إلي من كل شيء أملكه، أحسن
الرجل". (7)
__________
(1) المسند (5/ 400).
(2) في ت، أ: "منهما".
(3) زيادة من ك.
(4) زيادة من ك.
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/461). تنبيه: وقع خطأ في
الآية هنا وعند الطبري، وما أثبتناه هو الصواب.
(6) في ت: "تعلموا".
(7) تاريخ دمشق (9/401) "المخطوط". /(4/208)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق